حسن البصري:
من يتصفح كتاب «سحر كرة القدم» للكاتب الأردني معن البياري، سيقف عند جاذبية الكرة وقدرتها على جعل أدباء من الشرق والغرب يعيشون شغف الكرة، ويتخلصون من هدوئهم وتركيزهم ويمنحون ملكة إبداعهم إجازة، ليتفرغوا لحمق اللعبة الشعبية الأولى في العالم ولحماقاتهم في خلوتهم الكروية.
وقال البياري في مقدمة الكتاب الذي يجمع ما بين دفتيه واحدا وستين نصا: «أصحابها من جغرافيات وأوطان وثقافات عدة، ومن أمزجة متنوعة.. من دول من كل القارات، نصفهم عرب ونصفهم الآخر غير عرب».
لا يحول وحي القلم والأسلوب البياني ولا الاتجاه الفكري دون الارتماء في فوضى الكرة، ولا ينفع التنكر في ثوب الموضوعية أو المعالجة الموضوعية للقضايا في ركوب صهوة الحياد الكروي غصبا عنه أحيانا.
إذا كان الأديب قادرا على الكشف عن ميولاته الكروية، فإن فن العيطة جر كثيرا من الرواد نحو «واجب التحفظ»، فلا يكشفون في سهراتهم وجلساتهم عن حقيقة انتماءاتهم، خوفا من فقدان متابعيهم.
في المدينة القديمة للدار البيضاء كان رائد العيطة المارشال قيبو، واسمه الحقيقي محمد لحريزي، عاشقا للوداد الرياضي، يتنكر أحيانا ليتابع مبارياته في ملعب «فيليب»، وكان يتردد على جاره البورزكي، مؤسس جوق اختار له اسم الوداد، لما يجمعهما من عشق للنغم والكرة.
اعتزل قيبو الغناء كما يعتزل اللاعبون، وقام بزيارة إلى الديار المقدسة، ونال لقب «الحاج» والمغني السابق كما ينالها اللاعبون، وحين توفي سنة 1974، تبين أن الرجل لا يملك شيئا إلا بضع صور مع أقطاب الوداد. وسار خلف جنازة رفيق دربه بوشعيب البيضاوي وداديون، لأنه كان بدوره لاعبا أساسيا في حفلات الفريق الأحمر بالمدينة القديمة.
لكل فريق نغمة تنصاع له، بل إن بعض الفنانين جمعوا بين العزف على الوتر ومداعبة الكرة، إذ إن مصطفى موسير، عميد مجموعة لارياش الأمازيغية، لم يكن مجرد مشجع في مدرجات ملعب «الانبعاث»، بل كان لاعبا ضمن فريق حسنية أكادير رفقة شقيقه، وعليه ينطبق القول المأثور «إلا ما جبها النغم يجيبها القدم». كان ذلك في نهاية السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
كشف محمد رويشة عن علاقته بفريق أطلس خنيفرة، حيث شاركه أفراح الصعود ونكبات النزول، وكان حميد الزاهر عاشقا للكوكب المراكشي، ونجاة عتابو متيمة بالاتحاد الزموري للخميسات والحسين السلاوي للجمعية السلاوية، وما زال الفنان جمال الدين الزرهوني، رائد فن العيطة العبدية، مناصرا لأولمبيك آسفي، وحجيب فرحان مواليا للجيش الملكي، حتى أصبح جمهور «العساكر» يتغنى برائعة «الراية فرفرات في الكركرات».
ورغم إيمانه بأنه «كاينة ظروف»، إلا أن الفنان عبد الله الداودي يصر على قطع الاتصال بالوتر كلما خاض الرجاء إحدى مبارياته، وعلى المنوال نفسه سار مصطفى بوركون الودادي، وقس على ذلك إلى أن يأخذك المد الفني إلى الستاتي، عاشق نجم العونات.
لكن ما يغضب عددا من رواد العيطة ويفرمل عشقهم الدفين، هو وجود الفرق التي يعشقونها طي النسيان، لذا كان رويشة يشعر بالغبن وهو يغني لجمهور مكناس وبني ملال ويشاركهما فرحة الصعود، بينما يعيش فريقه المحبوب أطلس خنيفرة على إيقاع الهزائم.
اتحاد بن أحمد الذي تأسس سنة 1944 ورمت به الأقدار إلى قسم المظاليم، كان يملك صوتا يسكن نبراته حب الفريق المكلوم، إنه رائد العيطة في عاصمة امزاب، «ولد قدور» الذي مات وفي قلبه ألم مدينة أنهكت جسدها إبر التنمية البشرية، تمنى صاحب رائعة «العلوة» أن يستجيب يوما كل الأولياء الصالحين الذين تغنى ببركاتهم لدعوة انتشال الفريق الحمداوي من محنته.
بقدر عشقه لاتحاد بن أحمد كانت شقيقته «مينة» تهوى تمزيق كرات الأطفال في الزقاق، وحين ماتت أنشد: «ملي ماتت مينة منك تهنينا».