حسن البصري
حين كنت فتى يافعا أتردد على ملعب «دونور» و«بير جيكو» وملعب «الحفرة»، لم تكن مباريات كرة القدم تخلو من شتائم في حق أشخاص يلف السواد أجسادهم. كانت فئة من الجمهور تتسلح بما يكفي من جرأة لتردد لازمة «آلاربيط أمسخوط الوالدين»، فنتحول من حيث لا ندري إلى «كورال» جماعي يعيد ترديد هذا الموشح.
اعتقدت حينها أن الحكم رجل عاق، وتساءلت لماذا لا يبر هذا الكائن بوالديه؟
مرت الأيام فاتضح لي أن الحكم بريء من تهمة العقوق، وأن صفارته هي التي تجلب له عاصفة الشتائم وزخات الغضب الساطع من المدرجات. فهمت أن «السالتين» مثلي والمستفيدين من «العباسية»، هم حطب هذه الغارات الأسبوعية.
تغير الوضع وتخلص الحكام من سواد بذلاتهم ومن ترهل أجسامهم، ولم تعد تقاسيم وجوههم بنفس الحدة، وأصبح لهم مساعدون وأعوان وغرفة «فار» ومستشارون، لكن صافرة منفلتة منهم، قد تعيد موال العقوق.
بعد أن كثر اللغط وتعالت أصوات الغاضبين المنزعجين من وقع الصفارات المنفلتة، وبعد أن تناسلت برامج تحليل وتحريم القرارات التحكيمية وانتشرت عبر منصات التواصل الاجتماعي، قررت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم عرض الصفارات المغربية على الخبرة، واستعانت بالحكم المغربي الحامل للجنسية الأمريكية إسماعيل الفتح، وكلفته بإخضاع الصفارات لخبرة دقيقة، وإعداد تقرير دقيق يكشف عن مكامن الضعف والقوة في جهاز التحكيم، ويعيد للصافرة المغربية مكانتها وللحكام شخصيتهم، التي تآكلت من شدة الخوف من ثلاجة المديرية ورعب الاختفاء القسري.
وعد إسماعيل برد الاعتبار للحكم المغربي، وراهن على إعادته إلى العالمية، وتحديث القطاع، حتى تستعيد الصفارة هيبتها وتتحول من أداة وديعة إلى صوت ترتعد له الفرائص. ووعدت الجامعة بمنحه صلاحيات دخول مربع العمليات.
هناك قناعة لدى الجميع وهي أن الحكم بشر قد يخطئ وقد يصيب، وأن الصفارة كاللسان «ما فيه عظم»، وأن جهاز «الفار» الذي جيء به لمساعدة الحكم، قد تحول إلى كائن يمتحن شجاعة الحكم، فيقف أمامه متأملا متضرعا، خوفا من غضبة النافذين.
لكل جامعة طريقتها في تدبير أزمة قضاة الملاعب، هناك من يلجأ إلى استيراد الحكام من الخارج بأثمان تفضيلية، وهناك من يرفع شعار «صنع في المغرب»، فيضع ثقته في المنتوج المحلي، وفئة ثالثة تراهن على أصحاب الخبرة والتجربة، ورابعة تصر على أن الخلل يسكن المديريات الجهوية للتحكيم ويستوطن العصب، علما أن تحقيق العدالة الكروية المطلقة صعب المنال.
حين طلب الجنرال حسني بن سليمان من أحمد عموري، رئيس لجنة التحكيم، مشروعا لتأهيل حكام كرة القدم، بادر هذا الأخير إلى دعوة حكام البطولة بأصنافها لاجتماع طارئ، وحين اكتمل الجمع دخل عموري مرفوقا بواعظ ضرير، تراقصت أمام عيون الحكام علامات استفهام وتزاحمت في أذهانهم علامات التعجب، قبل أن يشرع الواعظ في تقديم درس ديني حول عدل وجور الحكم. تطايرت في الاجتماع شظايا الخوف من شدة الوعيد، بعد أن توعد «الفقيه» المنفلتين بنار جهنم وبئس المصير.
فشلت مقاربة الوعاظ في تأهيل التحكيم المغربي، ولم تقدم الدورات التدريبية ولا المدارس ما كان منتظرا منها، ولم تستطع الصفارة جذب الشباب كالكرة، وانسحبت من أدبيات اللعبة لازمة «إلا مجابها القلم تجيبها الصفارة»، وأصبح اسم الحكم مقرونا في عناوين الصحافة بالفضيحة.
اليوم نحن أمام تحول جديد سينهي فترة استعانت فيها المديرية واللجنة بقضاء حوائج التحكيم بالكتمان. وقد يعيدنا إلى زمن الإنصاف والمصالحة، من خلال الاستماع للمتضررين للقاطنين في الثلاجة المغضوب عليهم ولا الضالين، في أفق تجديد قطع الغيار.
حسنا فعل لقجع حين عرض الصفارات على خبرة مهندس مغربي، حاصل على شهادة الهندسة الميكانيكية من جامعة تكساس.