رياضة العرب | Arabs-Sport

كنت في المباراة بالقاهرة

القاهرة: د. خالد فتحي

 

لم أكن ضمن تشكيلة اللاعبين طبعا، ولا على دكة الاحتياط، وإنما كنت مشجعا من بين المشجعين أتوتر كما يتوترون وأفرح وأغتبط كما يغتبطون ويفرحون. لم أخطط لحضور المباراة، فأنا في كرة القدم ضحل، بل في منتهى الضحالة لعبا واطلاعا، لم أكن لأعلم أن بطولة إفريقية لفئة أقل من عشرين عاما تجرى في القاهرة، ولا أن المنتخب المغربي سيواجه نظيره المصري في نصف النهائي، إلى أن شاءت الصدف أن امر بالعاصمة المصرية عابرا من كردستان العراق في طريقي نحو الدار البيضاء.

تدبر لي صديقان تذكرة للمدرجات، لكن ثالثا أصر بإلحاح لافت أن أتابع المباراة من المنصة الشرفية. كأن الأقدار كانت تهيئني كي أكون شاهد نصر يعوض هزيمة سابقة عشتها أعزل هنا، في القاهرة نفسها.

عدتُ إلى الفندق بعد نهاية المباراة، وسائق التاكسي يُشغّل «حارة السقايين» لمحمد منير. فتحت تلك الأنغام بوابة ذاكرة، قادتني إلى مقال كنت قد نشرته في «المصري اليوم»، قبل عامين، في صباح انتصار الأهلي على الوداد بنهائي دوري أبطال إفريقيا بالدار البيضاء. عنونته حينها: الكرة سجال. واليوم، أشعر أن الكرة قد دارت، وأنني نلت ثأري الرمزي من تلك الموقعة. كانت المباراة حينها علينا في المغرب، وها هي اليوم لنا… في مصر.

قبل يومين من المواجهة، ضرب زلزال خفيف القاهرة. لم يشعر به أغلب سكانها، لكنني شعرت به. خرجت إلى الشارع، ربما لأنني كنت مستيقظا، وربما لأننا – نحن المغاربة – صرنا أكثر حساسية من الزلازل، بعد فاجعة الحوز. حينها، اعتبرت الهزة إشارة. قلت في نفسي: «سيُزلزل المغرب «استاد الدفاع الجوي» بالقاهرة زلزلة خفيفة، وسيفوز بهدف نظيف»، وقد كان.

لم يكن الحضور الجماهيري غفيرا، لكن من حضر من الطرفين حضر بقلبه. هتف الجمهور المصري بحماس، ردد الشعارات، أشعل هواتفه حين بُحت الحناجر… ولكن دون جدوى. كان منتخبهم يفتقر للمسات الأخيرة، فيما بدا منتخبنا أكثر نضجا، أكثر تنظيما، وأفضل في صناعة الفرص. جاء الفوز مستحقا لشبابنا، ورأيت الاعتراف مكتوبا في عيني أحمد حسن، عميد الكرة المصرية الملقب بـ«الصقر»، وهو يغادر المنصة متأثرا، لكنه ثابت الوقار، رفيع الروح الرياضية.

في المنصة الشرفية، المشاعر تنضبط، والهتاف مكبوت. عليك أن تراعي مشاعر الجالسين حولك من مسؤولي الكرة وكبار الضيوف. لا تستطيع أن تصرخ كما تشاء، ولا أن تنفلت كما يليق بمحب حقيقي. هناك في المدرجات فقط، يسكن النبض الحقيقي، وتنبعث الحماسة الصافية. هناك سمعت الشعار المغربي المألوف لدي منذ الطفولة «زيدوهم زيدوهم، هادشي ما يكفيهم»، تلاه صوت زغرودة أطلقتها امرأة مغربية التفت بالعلم الوطني، ثم انبعثت الصلوات على النبي، فتأكدت أن الفوز لنا.

عند تسجيل الهدف القاتل، دوّى الصمت في الجانب المصري من المنصة الشرفية. قال أحد الجالسين: «إيه ده؟!»، وآخر صاح: «يا راجل، مش كده!»… ثم خيم السكون، وكأن على الرؤوس الطير. ومع ذلك، لم يطل حزنهم. جمهور يعرف كيف يقدر الخصم، وكيف يسامح الكرة حين تخذله. دقائق قليلة بعد صافرة النهاية، وجدتهم يُقبلون علينا بالتهنئة والمباركة.

لم يتأثروا كثيرا بالهزيمة. فمنتخبهم قد ضمن تأهله إلى كأس العالم، وأنا واثق أن الجمهور المصري سيقف خلف المنتخب المغربي، يوم الأحد، في النهائي. في مباراة الخميس، كان نصف الملعب لنا. أما يوم الأحد، فأجزم أن الملعب كله سيكون مغربيا في الهتاف والروح.

المغرب انتصر لأنه لعب جيدا، نعم، لكنه انتصر أيضا، لأنه محاط بهالة الأداء الملهم في مونديال قطر. صار كل عربي يرى في منتخب المغرب منتخبا له، ويفخر به. كل العرب يعرفون أسماء بونو، حكيمي، زياش، النصيري، وأمرابط عن ظهر قلب. وقريبا، سيحفظون أسماء الجيل الجديد: عبدلاوي، بومسعودي، بختي، الزهواني، الصادق… وغيرهم.

سائق التاكسي أخبرني بانبهار أن اللاعبين المغاربة «سحرة»، وأنه مهووس بهذا المنتخب منذ أيام مصطفى حجي. بدا كمن يستحضر هدف حجي في مرمى مصر في كأس أمم إفريقيا سنة 1998، ثم أردف بلكنته المصرية الجميلة: «أكاديمية محمد السادس دي… بتطلع بلاوي!»، قاصدا أن المغرب بات يصنع لاعبين عالميين.

بعد نهاية المباراة، لم أدرِ كيف وجدتني أقتحم الملعب مع المقتحمين، أحتفل فوق العشب مع الفريق. كان هناك طارق السكتيوي، مدرب المنتخب الوطني الأولمبي لكرة القدم، صافحني والتقطنا صورة عفوية. ربما استشعر في داخله أنني ابن الحي المحمدي بفاس، حيه أيضا. لم أجد الوقت لأبوح له بذلك. سيتغير ولاشك. التقيت أيضا ببنشرقي وأشرف داري، لاعبي الأهلي الآن. كنت أعرف بعضا من جمهور نادي الجزيرة التابع للأهلي، أما الآن، فقد صرت أعرف لاعبين من الفريق نفسه. ولو كنت مصريا، لكنت أهلاويا!

سفارتنا كانت حاضرة، قوية، داعمة، مساندة. وكذلك جامعة كرة القدم. يا لجمال أن ترى أبناء وطنك خلفك حين تكون خارجه، خاصة في مواقف تحتاج فيها إلى من يرفع معك راية الوطن.

وكانت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم حاضرة بدورها، تنظيما ومواكبة، تؤكد مرة أخرى أنها تقود كرة القدم الوطنية برؤية احترافية، تجعل من المغرب نموذجا قاريا يُحتذى به ولم لا قوة كروية عالمية يقام لها ويقعد.

كرة القدم، وإن كنت أُجافيها في معظم الأوقات، إلا أنني أقر بأنها مدرسة من مدارس الوطنية، تصقل الانتماء، وتذيب الفوارق، وتخلق لحظة جامعة. إنها وطن يُختصر في 90 دقيقة، وراية تُرفع في مرمى الآخر.

نحن مقبلون هذا العام على تنظيم كأس أمم إفريقيا، ومقبلون في 2030 على كأس العالم. نحن بحاجة إلى رافعات معنوية، إلى تراكم لا ينقطع، إلى زخم مستمر. الفوز الذي تحقق، وما نرجوه من تتويج يوم الأحد، ليس نهاية، بل بداية شق الطريق نحو تتويج آخر: كأس إفريقيا تنظيما وفوزا، وكأس العالم إنجازا وطموحا.

لقد أبلى شباب منتخب أقل من 20 سنة بلاء حسنا، وأدوا ما عليهم كما يجب. هم البذور التي قد تثمر نصرا وطنيا كبيرا في مونديال 2030. فلنرعَ هذا الغرس، فإننا نحتاج إلى قلوب مؤمنة ببلدها… في كل الميادين.

كنت في المباراة بالقاهرة

Exit mobile version