ذكريات وطقوس وعادات شهر رمضان لها وقع خاص فى عقل ووجدان المصريين حيث يحظي الشهر الكريم على مدار التاريخ باهتمام بالغ من الناس إعدادا وتجهيزا واستقبالا . كما أن تلك العادات والتقاليد والذكريات سجلتها روايات واعمال مشاهير الأدباء وفى مقدمتهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويحيى حقى وإبراهيم عبدالمجيد وغيرهم .
الأغانى الشهيرة مثل وحوي يا وحوي ، حالو يا حالو …والمسحراتى ، المدفع ، الكنافة ، القطائف كلها عادات ارتبطت بشهر رمضان مزجها الشعب المصرى وتوارثها جمعيها لتصبح عادات أساسية فى شهر رمضان الكريم .. وتذخر الثقافة المصرية بعادات رمضانية امتدت لسنوات لا حصر لها تبادلها أهل مصر وشبوا عليها منذ مئات السنين. السطور التالية تتناول جانبا من تلك العادات والطقوس والحكايات .
رمضان في حياة ووجدان المصريين :
ما ان يبدأ بيان دخول الشهر وثبوت رؤية الهلال ، حتى يتحوّل الشارع المصري إلى ما يشبه خلية النحل ، فتزدحم الأسواق وتزدان الشوارع ، وتنشط حركة التجارة بشكل ملحوظ لتوفير اللوازم الرمضانية المختلفة وينطلق الأطفال في الشوارع والطرقات حاملين معهم فوانيس رمضان وهم ينشدون ” حلّو يا حلّو ” وعبارات التهنئة تنطلق من ألسنة الناس لتعبّر عن مشاعر الفرحة بقدوم الشهر الكريم .
الفانوس فى ليالى رمضان :
فانوس رمضان أحد المظاهر الشّعبيّة الأصيلة في مصر، إستخدم الفانوس فى صدر الإسلام في الإضاءة ليلاً للذهاب إلى المساجد وزيارة الأصدقاء والأقارب ، وقد تحول الفانوس من وظيفته الأصلية فى الإضاءة ليلاً إلى وظيفة أخرى ترفيهية إبان الدولة الفاطمية حيث راح الأطفال يطوفون الشوارع والأزقة حاملين الفوانيس ويطالبون بالهدايا من أنواع الحلوى التى ابتدعها الفاطميون ، كما صاحب هؤلاء الأطفال – بفوانيسهم – المسحراتى ليلاً لتسحير الناس ، حتى أصبح الفانوس مرتبطاً بشهر رمضان وألعاب الأطفال وأغانيهم الشهيرة فى هذا الشهر.
وقد ظلت صناعة الفانوس تتطور عبر الأزمان حتى ظهر الفانوس الكهربائى الذي يعتمد في إضائته على البطارية واللمبة بدلا من الشمعة، انتقلت فكرة الفانوس المصري إلى أغلب الدول العربية وأصبح جزءا من تقاليد شهر رمضان.
المسحراتى..اصحى يانايم وحد الدايم :
من أكثر المظاهر التى ارتبطت بشكل مباشر برمضان المسحراتى ، بدأت مهنة المسحراتي أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي أصدر أمراً بأن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح وكان جنود الحاكم يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور.
وأول من نادى بالتسحير “عنبسة ابن اسحاق” سنة 228 هجرية وكان يسير على قدميه من مدينة العسكر فى الفسطاط حتى مسجد عمروبن العاص تطوعا..وكان ينادى عباد الله تسحروا فان فى السحور بركة ومنذ تلك الفترة أصبحت مهنة المسحراتى فى مصر تلقى احتراما وتقديرا بعد أن قام بها الوالى بنفسه ، وأصبحت عادة أساسية فى العصر الفاطمى فكانوا يوقظون الناس بطرق العصا على أبواب المنازل ، تطورت بعد ذلك ظاهرة التسحير على يد أهل مصر حيث ابتكروا الطبلة ليحملها المسحراتي ليدق عليها بدلا من استخدام العصا، كما ارتبطت بالسير والحكايات الشعبية التي يعشقها الكثير من المصريين مثل ألف ليلة وليلة وابو زيد الهلالي وعلي الزيبق.
من أشهر من قاموا بالتسحير فى عصر المماليك شخص يدعى ابن نقطة ، وهو المسحراتي الخاص للسلطان الناصر محمد وكان ابن نقطة شيخ طائفة المسحراتية في عصره وصاحب فن ” القومة ” ، وهي إحدى أشكال التسابيح والابتهالات .
وفي العصر الحديث اشتهرت أيضًا مهنة المسحّراتي ، وكانت النساء تضع نقودًا معدنية داخل ورقة ملفوفة ويشعلن طرفها، ثم يلقين بها من المشربية إلى المسحراتي حتى يرى موضعها فينشد لهن .
وقديماً كان المسحّراتي لا يأخذ أجره ، وكان ينتظر حتى أول أيام العيد فيمر بالمنازل منزلاً منزلاً ومعه طبلته المعهودة ، فيهب له النّاس المال والهدايا والحلويّات ويبادلونه عبارات التّهنئة بالعيد.
المسحراتي كان يطوف الحارات والشوارع يطرق على طبلته ليُوقظ الناس، مناديًا كل شخص باسمه اصحَى يا نايم، اصحَى يابو محمود ، اصحَى يابو خليل ، اصحى وصحي النايم، فيستيقظ من كان نائمًا، وينزل الأطفال بفرحةٍ يحملون فوانيسهم ويطوفون الشوارع القريبة وراءه مُردِّدين ما يقول بسعادة بالغة اصحى يا نايم، وحِّد الدايم، رمضان كريم.
فؤاد حداد وسيد مكاوي والمسحراتى :
اتخذت مهنة المسحراتي بعداً فنياً على يد الشاعر فؤاد حداد والموسيقار سيد مكاوي ، وفي عام 1964 انطلق مسحراتي الإذاعة وانتظره الساهرون بعد أن اعتادوا سماعه ومع انتشار التلفزيون أبدع مكاوي في مزج فن التسحير بالوعظ والإنشاد في حب الوطن وأضاف حداد بعداً سياسياً اجتماعياً إلى التسحير حينما قال (وكل حتة من بلدي حتة من كبدي.. حتة من موال.. وأنا صنعتي مسحراتي في البلد جوال).
مدفع الأفطار..اضرب :
يعد صوت المدفع من أهم الطقوس الرمضانية في مصر باعتباره الوسيلة المفضلة لإعلان موعد الافطار لحظة مغيب الشمس معلنا انتهاء الصوم كما يقوم الأطفال بصنع مدفع رمضان ويشترون المفرقعات (البمب) ويقومون بضربه قبل أذان المغرب.
مدفع إفطار الحاجة فاطمة :
الحاجة فاطمة هي الأميرة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل، وعرفت بحبها للخير والعلم وتبرعت بكامل أراضيها لإنشاء الجامعة الأهلية (جامعه القاهرة) وكل مجوهراتها الثمينة للإنفاق علي تكاليف البناء . وتقول الروايات أن الجنود كانوا يقومون بتنظيف أحد المدافع ، فانطلقت قذيفة خطأ مع وقت أذان المغرب في أحد أيام رمضان فاعتقد الناس أنه نظام جديد للإعلان عن موعد الافطار ، فعلمت بهذا الامر الأميرة فاطمة فأصدرت فرمانا ليتم استخدام هذا المدفع عند الافطار والامساك وفي الأعياد الرسمية، وقد ارتبط اسم المدفع باسم الأميرة.
وكان أول مكان استقبل مدفع رمضان قلعة صلاح الدين بالقاهرة ، ومن ثم أمر الخديوى عباس والى مصر عام 1853 بوضع مدفع آخر يطلق من سراي عباس بالعباسية، ثم أمر الخديو إسماعيل بمدفع آخر ينطلق من جبل المقطم حتى يصل صوته لأكبر مساحة من القاهرة وفى الإسكندرية تم وضع مدفع بقلعة قايتباى.
وآخر مرة أطلق فيها المدفع كان عام 1992 لأن هيئة الآثار المصرية طلبت من وزارة الداخلية وقف إطلاقه من القلعة خوفا على المنطقة التي تعد متحفا مفتوحا للآثار الإسلامية، وتحول مدفع القلعة الحقيقى إلى قطعة أثرية جميلة غير مستخدمة ، وما نسمعه فى الراديو أو نراه فى التليفزيون مجرد مؤثر صوتى ظل يتكرر لأكثر من عقدين كاملين .
أغانى رمضان..حالو يا حالو ..رمضان جانا
يحفل شهر رمضان بتراث مميز من الأغاني الشعبية في مصر وتنقضي الأعوام وتتطور الأغنيات ويدخل عالم الغناء والطرب منشدين وأغنيات أخرى للشهر الكريم ، لكن تظل هذه الأغنيات التراثية ، وغيرها من التواشيح لا ينازعها منازع في وجدان وذاكرة الشعوب ، وكأن الصيام لا تكتمل روعته وصفاؤه إلا بها .
ومن أبرز تلك الأغانى “رمضان جانا” التى يقول مطلعها رمضان جانا.. وفرحنا به.. بعد غيابه وبقاله زمان.. غنوا معانا شهر بطوله..غنوا وقولوا أهلا رمضان ، وهى من أكثر الأغانى التى تملأ الأجواء بهجة من غناء الفنان الراحل محمد عبد المطلب وكلمات “حسين طنطاوى” ولحن “محمود الشريف”.
من أشهر أغانى رمضان أغنية مرحب شهر الصوم ، و من غناء المطرب الراحل عبد العزيز محمود مرحب شهر الصوم مرحب.. لياليك عادت بآمان..بعد انتظارنا وشوقنا جيت يا رمضان..مرحب بقدومك يا رمضان..إن شا لله نصومك يا رمضان .
ومن أبرز الأغنيات التى لا تنسى أغنية الفنان محمد فوزى الشهيرة هاتوا الفوانيس يا أولاد والتى شاركه فى غنائها الأطفال ليرددوا وراءه كلمات الأغنية والأغنية من تأليف عبد العزيز سلام ولحنها محمد فوزى نفسه وتقول،هاتو الفوانيس يا ولاد هاتوا الفوانيس هانزف عريس يا ولاد، هيكون فرحوا تلاتين ليله هنغني و نعمل هوليله و هنشبع من حلوياته، هاتوا الفوانيس يا ولاد هاتوا الفوانيس كل حبايبه راح يعزمهم متواعدين وياه هيفطرهم و يسحرهم ، و الخير جيبه معاه، هنغير ريقنا علي خشاف و الفول راح يتاكل حاف و كنافه و قطايف بيضه وو هتكون سناتكم بيضه و الصايم يديه حسناته.
ومن الأغانى المحببة للجميع “أهلا رمضان” للمطرب محمد عبد المطلب ، وحالو ياحالو لصباح وأغنية “سبحة رمضان لولى ومرجان” لفريق الثلاثى المرح وفاء وصفاء وثناء، ومن أغانى هذا الفريق أيضًا “أهو جه ياولاد” و”وحوى يا وحوى”وكانت معظم الحفلات وخاصة ليالى رمضان تستهل فقراتها بالثلاثى المرح، حيث يضفين البهجة والسعادة على الحفل، وغنين أمام الرئيس عبدالناصر.
وأغنية المطربة شريفة فاضل “تم البدر بدرى” التى تدمع العيون فى وداع شهر رمضان حين تسمعها ، وأغنية يابركة رمضان خليكى فى الدار، والتى غناها المطرب محمد رشدى .
وحوى يا وحوى.. أشهر أغاني رمضان على الإطلاق :
وحوي يا وحوي إياحا وكمان وحوي إياحا أنشودة رمضان الخالدة كتبها الشاعر حسين حلمى المانسترلى وتغنى بها المطرب أحمد عبد القادر ، وكذلك تغنى بها الشعب المصرى وأصبحت تعبيرًا عن الفرحة الرمضانية
تقول كلمات الأغنية وحوى يا وحوى أياحة، روحت يا شعبان، وحوينا الدار جيت يا رمضان، هل هلالك و البدر أهوه بان، يالا الغفار، شهر مبارك و بقاله زمان، يالا الغفار، محلا نهارك بالخير مليان، وحوى يا وحوي، أياحة… طول ما نشوفك قلبنا فرحان، يالا الغفار، يكتر خيرك أشكال و ألوان، يالا الغفار، بكرة فى عيدك نلبس فستان، وحوى يا وحوي، أياحة..
ولعل هذه الأغنية أشهر أغاني شهر رمضان على الإطلاق بل أولها كما قال المؤرخون وفيها تجد من أدوات التراث الفانوس ، فستان العيد ، رؤية الهلال ، والطقوس القديمة.
تواشيح وابتهالات النقشبندى :
يعد النقشبندى كروان الإنشاد الدينى وصفه الدكتور مصطفى محمود بأنه مثل النور الكريم الفريد الذى لم يصل إليه أحد ، له العديد من الابتهالات والتواشيح الرائعة وعلى رأسها مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى التى يرتجف القلب خشوعا حين يستمع إليها ، ليبقى هذا الابتهال الدينى الأكثر شهرة وأهمية من بين أعمال الشيخ النقشبندى المميزة ، وكتب كلماته الشاعر عبدالفتاح مصطفى، والموسيقار بليغ حمدى هو من قام بتلحين هذا الابتهال فى أول تعاون بينه وبين الشيخ سيد النقشبندى.
مولاى إنى ببابك كان بداية التعاون بين بليغ والنقشبندى، أسفر ذلك عن أعمال وابتهالات عديدة «أشرق المعصوم، أقول أمتى ، أى سلوى وعزاء ، أنغام الروح، رباه يا من أناجى، ربنا إنا جنودك، يا رب أنا أمة، يا ليلة فى الدهر/ ليلة القدر، دار الأرقم، إخوة الحق، أيها الساهر، ذكرى بدر .
فوازير رمضان :
ولد فن الفوازير في الإذاعة أولاً على يد الإعلاميَّة سامية صادق في عام 1958، وقدمته الإعلاميَّة آمال فهمي في العام التالي، ثم انتقلت الفكرة إلى التلفزيون في عام 1967، وقدَّمها سميرغانم ، وجورج سيدهم، والضيف أحمد باسم فوازير ثلاثي أضواء المسرح ، وإخراج محمد سالم ، ثم احتكرت الفنانة نيللي تقديمها منذ عام 1975 حتى 1981 ، كما احتكر فهمي عبدالحميد اخراجها حتى وفاته عام 1990، وفي عام 1982 ابتكر المخرج فهمي عبد الحميد شخصية فطوطة، وقدمها سمير غانم في الفوازير حتى 1984، وفي العام التالي قدمت الفنانة شيريهان فوازير ألف ليلة وليلة الَّتي عرضت حتى 1988، ثم كانت فوازير المناسبات بطولة صابرين وهالة فؤاد ويحيى الفخراني وفي عام 1989 كانت فوازير الفنون بطولة شيرين رضا، ومدحت صالح .
وتوفي المخرج فهمي عبد الحميد بينما كان يصور فوازير عالم ورق في يناير 1990 بطولة نيللي ، واستكملها مساعده جمال عبدالحميد ، وقدمت نيللي في عام 1992 فوازير عجايب صندوق الدنيا، وأم العريف في 1993، ثم كانت فوازير قيس وليلى بطولة محمد الحلو ، وشيرين وجدي في عام 1994 ، ثم حاجات ومحتاجات بطولة شيريهان في عام 1994 ، وقدمت نيللي الدنيا لعبة وزي النهاردة في العامين التاليين ، وفي عام 1997 قدمت الفنانة جيهان نصر فوازير الحلو ما يكملش ، فيما قدم كل من دينا ، وأشرف عبدالباقي، ومحمد هنيدي فوازير أبيض وأسود، وقدمت لوسي قيمة وسيما في العام التالي ، ثم عادت دينا بفوازير أبيض وأسود كمان في عام 1999، وكانت فوازير جيران الهنا من نصيب راقصة البالية نادين في عام 2000، ثم قدمت منستغناش في العام التالي، وقدمت نيللي كريم حلم ولا علم في العام نفسه، فيما جاءت فوازير العيال اتجننت بطولة ياسمين عبدالعزيز، ومحمد سعد، وعبدالله محمود في 2002، وكانت النسخة الأخيرة من الفوازير بطولة الفنانة غادة عبدالرازق عام 2003 بعنوان فرح.. فرح.
وعلى الرغم من كثرة الأسماء التي قدمت الفوازير منذ بدايتها، إلاَّ أنَّ أحدًا لم ينجح في أن يرتبط اسمه بها، باستثناء نيللي وشيريهان، اللتان ارتبطت شهرتهما بها. واستمتع الأطفال ببوجى وطمطم وعمو فؤاد وجدو عبده ومسلسل الكارتون المصرى بكار.
أول إمساكية فى مصر.. “إمساكية “ولي النعم محمد علي باشا”
تعتبر إمساكية رمضان دليل الصائم والمصلي خلال أيام الشهر الكريم ، وعلى مدار تاريخ مصر كانت إمساكية رمضان لوحة فنية مرسومة ومطبوعة بعناية فائقة ، خاصة قبل أكثر من قرن ، وتحديدا في عهد محمد على ، وما تلاه حيث تطورت إمساكية رمضان عاماً بعد عام ، وأول إمساكية رمضانية في تاريخ مصر كانت فى عام 262 هجرية وكانت عبارة عن ورقة واحدة مطبوع فيها مواعيد الصلاة والإمساك عن الطعام والافطار وطبعت في “دار الطباعة الباهرة ” ببولاق مصر ، حيث ضمت خانات مختلفة مثل “غروب القمر ” و”طلوع القمر “.
كانت تشير امساكية رمضان زمان وعلى مدار تاريخ مصر الحديث الى مدى وجاهة ورقى صاحبها سواء أشخاص أو شركات أو جمعيات ، وكانت تؤرخ للعصر الذى صدرت فيه من ناحية التقدم والرقى في الرسم والطباعة وفكرة الإمساكية ، ومع التقدم التقنى الحالى تحولت الإمساكية الورقية الى تاريخ وحالة من الزمن الجميل يحرص الهواة على اقتنائها بعدما أصبح الموبايل بديلاً لأشياء كثيرة في حياتنا .
مقاهي القاهرة في رمضان.. ترمومتر الحياة المصرية
يشغل شهر رمضان مكانة شديدة الخصوصية في الوجدان الإنساني بكل مفرداته ومنها المقهى فكان ولايزال جزءًا من الحياة القاهرية.. وإذا كانت المقاهي تحظى بالإقبال عليها طوال أيام العام، فإنها تحظى في شهر رمضان بإقبال متزايد، نظراً لتعود المصريين على قضاء سهراتهم خارج المنزل .
الموائد الرمضانية :
يعتبر الخليفة الفاطمي العزيز بالله أول من عمل مائدة في شهر رمضان قد عرفت مصر ظاهرة المآدب الملكية أو الموائد الرمضانية التى انتشرت فى عهد الملك فاروق وكانت تقام لإطعام الفقراء والمساكين والموظفين وعابرى السبيل وأى فرد من أفراد الشعب ، وكان الغرض منها كما يقول بعض المؤرخين يتراوح ما بين بروتوكول سياسي وعمل خيرى .. وقد ظلت الموائد الملكية مستمرة حتى قيام الثورة وسقوط الملكية ليحل محلها موائد الرحمن والموائد الرمضانية البسيطة التى تملأ شوارع وحوارى مصر المحروسة .
وموائد رمضان على وجه العموم تحفل بالحلويات والمشروبات وغيرهما التى سجلتها بعض الأغنيات التى يقول مطلعها : جبت لنا معاك الخير كله، م الصبح نقوم ونحضرله، بالقمر الدين وبلح على تين ، م المغرب للمدفع واقفين . ويعد الفول أول الأطباق ولا تكاد تخلو منه مائدة رمضان ، ويتفنن المصريون في عمل أصناف منه حيث تحرص عليه كل أسرة وخاصة في السحور . ومن أشهر الحلويات : الكنافة ، القطايف ، أم على ، اما المشروبات فأشهرها العرقسوس و الكركديه ، التمر الهندى ، قمر الدين ، الخرُّوب
التقاليد الرمضانية عند المستشرقين والأدباء :
تناول العديد من الرحالة والمستشرقين رمضان فى كتاباتهم من فرط تأثرهم بلياليه الساحرة ، ومنهم : الرحالة الإيطالي برنار دي بريد بناخ ، الرحالة الفرنسي جان باليرن ، الرحالة الفرنسي فيلامون ، الرحالة التركي أوليا جلبي… وغيرهم، وقد وصفوا الشوارع وأحوال الناس في نهار الشهر ، وحالة الأسواق ، وسَرَدوا بعض التقاليد المتّبعة ، ووصفوا بعض الأطعمة المميزة للشهر، وكذا شكل الاحتفال بمقدم العيد… إلخ، وأحد أهم هؤلاء المستشرقين البريطانى إدوارد ويليام لين ( الذى قام بترجمة «إلف ليلة وليلة» إلى الانجليزية) فمضى فى تسجيل ملاحظاته عنه فى كتاب “عادات المصريين المحدثين وعاداتهم “
رسم ادوارد لين بكلماته لوحة رائعة بدءاً من ليلة الرؤية التى تهفو فيها قلوب المصريين لتقر الأبصار برؤية هلال رمضان ، حيث يقضى نفر بضع ليال فى الصحراء لرؤية الهلال الجديد ، موضحاً أنه تكفى شهادة المسلم الواحد أنه رأى الهلال لإعلان الصيام . وفى مساء ذلك اليوم ، يسير موكب المحتسب ومشايخ الحرف المتعددة : «الطحانين، والخبازين ، والجزارين ، وباعة الفاكهة ، وفرق من الموسيقيين ، وعدد من الفقراء ، وفرق من الجنود يتقدمهم حاملوا المشاعل لينيروا لهم الطريق من القلعة إلى مجلس القاضى ، وما أن يصل خبر رؤية الهلال ، يجول الموكب فى الأحياء المختلفة صائحين : يا أمة خير الأنام.. صيام صيام .
وبمجرد أن يعلن عن بدء الصيام ، تعلن الأرض زينتها ، فتضاء المساجد هذه الليلة كما تضاء فى الليالى التالية ، وتعلق المصابيح عند مداخل المساجد وفوق شرفات المآذن بينما يقضى الناس شطرا كبيرًا من الليل فى الأكل والشرب والتدخين، لم يغفل «لين» فى سرده لحكايات المحروسة احتواء البيوت له وهو الغريب.. وكيف أحاط به دفء الطيبين فى أم الدنيا مصر يجرفه نهر الفضول إلى شوارع القاهرة فى نهار رمضان لتبدو – وفقا له- كئيبة فى الصباح ، فمعظم الحوانيت لا تفتح قبل صلاة العصر. بينما يحمل كثير من المارة مسبحة فى أيديهم، يقبل معظم التجار على تلاوة القرآن أو الأدعية، ومنهم من يقوم بتوزيع الخبز على الفقراء. والأغنياء يحرصون على إعداد موائد الإفطار للصائمين ويوضع معها عدة «قلل» من الماء المحلى بالسكر، ويستطرد : نوع من أنواع السلام يغمرك حين يرفع أذان المغرب.. يدخل معه إلى الصدر اطمئنان تفتقده وإذا بالصائم يتناول الشراب أولا، ثم يقيم الصلاة.. وبعد ذلك يتناولون النقل وأخيرا يتناولون وجبة الفطور المؤلفة من اللحم وأطايب الطعام، لينطلق بعد ذلك إلى صلاة العشاء والتراويح ، فى المحروسة تظل الجوامع الكبيرة مفتوحة إلى السحور أو إلى الإمساك ، بينما تغلق المساجد الصغيرة بعد صلاة التراويح مباشرة. يشير هنا المستشرق الإنجليزى إلى أنه جرت العادة بأن يقيم بعض علماء القاهرة ذكرا فى منازلهم كل ليلة من ليالى رمضان، ينقلب الليل نهارا حيث تكثر المارة فى الشوارع وتظل دكاكين المشروبات والمأكولات مفتوحة حتى وقت السحور فيما يقضى معظم المصريين أطيب الأوقات على المقاهي بصحبة الأصدقاء، يحتسون الشاى والقهوة ويستمعون إلى رواة السير والحكايات الشعبية، أو عزف الموسيقى من الموسيقيين الذين يترددون على المقاهى كل ليلة من ليالي رمضان .
تقاليد رمضان …كما سجلتها أعمال الأدباء :
استلهم العديد من الكتاب تجليات هذا الشهر في كتاباتهم ، بما يجعل من هذه الكتابات نصوصاً اجتماعية تمثل سجلاً لأحوال مصر عبر العصور المختلفة . حيث يؤكد فؤاد مرسي في كتابه”معجم رمضان” الصادر عن الهيئة العامة للكتاب أن هناك عديدا من الأعمال السردية المصرية، عنيت برصد المظاهر الرمضانية ، مثل رواية “الشمندورة” للأديب النوبي محمد خليل قاسم ، التي تعد مرجعاً مهماً ، يمكن من خلاله قراءة كيفية احتفال النوبيين بشهر رمضان قبل التهجير.
من جانب آخر هناك بعض الروايات التي جرت أحداثها كاملة فى شهر رمضان مثل رواية “17 رمضان” لجورجي زيدان ، وهناك من الروايات ما يعد مرجعاً متكامل الجوانب يمكن الاستدلال منه على طبيعة شهر رمضان وخصوصية تعامل المصريين معه ، مثل رواية “خان الخليلي” لنجيب محفوظ، “وفي “بيتنا رجل” لإحسان عبدالقدوس ، ويطالعنا بما كتبه الأديب نجيب محفوظ ابن الحارة المصرية، وابن القاهرة القديمة بكل خصائصها ومميزاتها، فقد نشأ وترعرع في أحضان الجمالية والعباسية وحي الحسين القديم وعن ملامح شهر رمضان في حي الجمالية وتحديداً في منطقة بيت القاضي التي شهدت ميلاده يقول: كان ميدان بيت القاضي يبدو في فرح مستمر لمدة شهر كامل ، فإذا ما جاء العيد وصل الفرح إلى ذروته وعلت مباني الشارع زينات الأفراح، وقد كان أجمل ما يسعدني أن المنازل التي تقع في الحي كانت وقت رمضان تفتح أحواشها للناس، وكانت تأتي بالمنشدين الذين كانوا يقيمون حلقات الذكر التى تنشد فيها قصائد المديح في النبي ، وكانت هذه المنازل تتبارى في من يأتي للإنشاد وكنا نحن ننتقل من منزل إلى آخر نستمتع بهذه الحلقات ، وكان رمضان بالنسبة للأطفال في هذه الأيام شهر الحرية، لأن الأهل كانوا يسمحون لنا بالأشياء التي كانت ممنوعة في بقية أيام السنة فقد كنا في ذلك الوقت أطفالاً صغاراً لا يسمح لنا بالتغيب عن البيت طويلاً ولكن ما إن يجئ رمضان حتى تفتح الأبواب ، لكي نخرج إلى الشارع ، حتى في الليل دون أن يقال لنا ألا نتأخر من دون أن يذكرنا أحد بموعد للعشاء أو النوم. وكانت هدية رمضان الأولى بالنسبة لنا هي الفانوس الذي كانت تضيئه آنذاك شمعة.
حمل محفوظ الكثير من الذكريات الرمضانية، كان يرى أن رمضان من أمتع شهور السنة بالنسبة له منذ أن كان صغيرًا ؛ ففيه كان ينقطع عن الكتابة، ليس من قبيل الكسل ولكن للتفرغ للعبادة، والتفكر فى عظمة هذا الشهر الكريم، و يقول: شهر رمضان يحرك فى نفسي ذكريات كثيرة تجعلني أشعر بالبهجة كلما تذكرتها… أذكر أنني بدأت الصيام منذ كان عمري سبع سنوات ، وكنت حريصًا جدًّا على أن أصعد فوق سطح بيت القاضي الموجود فى حي الأزهر حتى أرى مؤذن مسجد الحسين وهو يؤذن لصلاة المغرب وأتوجه مع مجموعة من أصدقائي من ميدان العباسية إلى مقهى الفيشاوي الشهير فى ميدان مسجد الحسين حتى السحور وكنا نتحدث في كل شيء حديثًا نافعًا ممتعًا، يشمل التاريخ والأدب والفن إلى جانب الأحاديث الدينية. كان رمضان يفيده كثيرًا أثناء وجوده فى الاسكندرية منفردًا؛ فأسرته كانت تفضل البقاء فى القاهرة حين يحل رمضان صيفًا بينما كان هو يفضل قضاء رمضان صيفًا في الاسكندرية، فكان يتناول وجبة الإفطار فى المطاعم وهذه فرصة رائعة ليتأمل العاصمة الثانية لمصر، كما تعلم نجيب محفوظ من الصوم ومن رحلته مع الحياة أن نداء الضمير يجب أن يلبى و أنه لكي تكثر من العبادة النافعة لك بجانب الفرائض الخمس لابد من مضاعفة جهد العمل والعطاء.
ومع حلول شهر رمضان، الذى وافق شهر إبريل من عام 1957، خصصت صحيفة الجمهورية عموداً صحفياً بعنوان «حديث الصيام»، لعدد من الكتاب باختلاف مهنهم وتخصصاتهم، و منهم الأديب والروائى العالمى نجيب محفوظ، الذى كتب مقالا بعنوان «الصيام طاعة ومحبة لله» و جمع المقال بين الروح الأدبية واللغة الراقية العميقة وبين الروح الإيمانية، وكتب نجيب محفوظ فى مقاله: «قالوا فى حكمة الصيام أنه فرض على المؤمنين ليخبروا فى أنفسهم آلام الجوع فتنعطف قلوبهم نحو الفقراء وأنه وسيلة تربوية لشحذ الإرادة واعتياد الصبر وأنه سبيل إلى تهذيب نوازع النفس وتطهير الروح، كل هذا حق غير أن المؤمن لا يقبل على الصيام لداعٍ من هذه الدواعى بقدر ما يقبل عليه من طاعة الله ومحبة فيه، وهو يجد فى ذلك السعادة دون تعليل أو تأويل، و الصيام تذكرة لمن شاء أن يوجه ضميره نحو هذه الواجبات لتأملها والعمل على تحقيقها، فليكن لنا فى شهر الصوم فرصة طيبة لمراجعة النفس فى سلوكها حيال الحياة والناس ، على ضوء مبادئ الدين الخالدة، وأول هذه المبادئ التوحيد وتحرير هذه الروح من عبادة أى شىء أو أى شخص، فلا نعبد إلا الله، وأيضا روح التضامن فى المجتمع الإنسانى التى جعلت للفقير حقا فى مال الغنى ومن هذه المبادئ أيضا التسامح الإنسانى، والدعوة الحقة إلى الأخوة الإنسانية والاجتهاد للمؤمن المفكر فى إيجاد حلول جديدة فى ظروف اجتماعية جديدة.
أعمال إبداعية من وحى رمضان :
وجدت أعمال إبداعية أخرى مستلهمة أجواء الشهر الكريم أو متخذة منه زماناً لأحداثها، مثل “عودة الروح” لتوفيق الحكيم ، ورواية “لا أحد ينام في الإسكندرية” لإبراهيم عبدالمجيد ، التي رسم من خلالها العلاقة بين بطلها الشيخ مجيد الدين المتدين النازح من إحدى قرى البحيرة ، وجاره المسيحي الذي يتعامل معه وكأنه يشاركه الاحتفال بهذا الشهر، ممثلاً لحالة الوحدة الوطنية . وكذلك محمد حسين هيكل في رواية “زينب”، كما ارتبط شهر رمضان في أعمال عديد من الأدباء بالخير والمعجزات وتحقيق الانتصارات وتنقية النفوس واستجابة الدعاء. وفي العصر الحديث صوَّر أمير الشعراء أحمد شوقي الصوم تصويرًا أدبيًّا ، فيذكر في كتابه أسواق الذهب : الصوم حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع لله وخضوع لكل فريضة حكمة، وهذه الحكم ظاهرها العذاب وباطنها الرحمة ، يستثير الشفقة ويحض علي الصدقة ، يكسر الكبر ويعلم الصبر ويسن خلال البر حتي إذا جاع من ألف الشبع ، وحرم المترف أسباب المنع- عرف الحرمان كيف يقع، وكيف آلمه إذا لذع.
رمضان فى ابداعات يحيى حقى وطه حسين :
عن عادات الناس وسلوكهم في رمضان قدَّم لنا يحيى حقي في كتابه من فيض الكريم صورة رائعة لتفاصيل الشعائر الإسلامية ، والعادات الاجتماعية التي تعكس جوهر شعوره الديني ، حيث يقدم تفاصيل ليلة الرؤية كما تسجلها عين يحيى حقي الصبي في بدايات القرن الماضي، فيضعنا أمام هذا الموكب الجميل الجليل الذي يسجل احتفاء شعب بأجمل شعائره، وهو استقبال شهر تطهير النفس والروح والبدن معًا.
يكشف عنوان (من وحي ليلة الرؤية) احتفاء يحيى حقي بتلك الليلة المباركة قبل دخول الإذاعة والتلفزيون وكيف كان مناسبة دينية تمتزج فيها عناصر الاحتفاء الشعبية والجمالية بالعناصر الروحية والدينية حيث يتم الإعلان عن وحدة الأمة وعن انصهارها في بوتقة الوحدة الدينية، وقد شدت أبصارها إلى القبة الزرقاء، وانطلقت أرواحها من عالم الأرض إلى عالم السماء، ولم يكن هناك مذياع يجلب للناس أخبار الرؤية في منازلهم ، وهم معزولين عن الآخرين متقوقعين على أنفسهم ، بل كانت جموع الصبية قبل الكبار تتجمع خارج باب المحكمة الشرعية في سراي رياض باشا، حيث يجلس القاضي ينتظر وفود الرسل الذين خرجوا إلى مختلف المراصد والأماكن ، لرصد قطعة صغيرة من النور ليس في السماء ما هو أرشق منها ولا أجمل ، وما أن تثبت الرؤية حتى تدار أكواب العصير على الحاضرين وسط هتاف الصبية: صيام صيام. بذا حكم قاضي الإسلام .
وينطلق الموكب وفي مقدمته ضارب الطبلة المغلفة بجلد النَّمِر فوق حصانه وخلفه فريق كبير من المشاة ، يعقبهم موكب أرباب المهن الشعبية، كل مهنة يتقدمها شيخها يتبعه صبيانه وقد حملوا أجمل أدوات مهنتهم التي يستعملونها في نوع راق من النشيد الإيماني، الذي يصوغ تضافر الفن والعمل في موكب يوحي وصف يحيى حقي بأنه لوحة رائعة من التراث الشعبي التلقائي الجميل، وما أن يمر الموكب على مسجد حتى تضاء مئذنته ولا تنتهي مسيرته إلا وتكون مآذن القاهرة الألف قد أضيئت إيذاناً بدخول رمضان.
أما الدكتور طه حسين فيرسم صورة أدبية للحظات الإفطار فيقول: فإذا دنا الغروب وخفقت القلوب، وأصغت الآذان لاستماع الآذان وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام فتري أشداقًا تنقلب، وأحداقًا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة، تملك على الرجل قلبه وتسحر لُبَّه بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب، الآن يشق السمع دوي المدفع فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء وإلى الجياع طافوا بالقصاع، تجد أفواها تلتقم وحلوقا تلتهم وألوانا تبيد وبطونا تستزيد ولا تزال الصحائف ترفع وتوضع والأيدي تذهب وتعود ومع تعدد أصناف الطعام علي مائدة الإفطار في رمضان فإن الفول المدمس هو الصنف الأهم والأكثر ابتعاثا للشهية .
خاتمة :
هكذا اختلفت مظاهر رمضان على مر العصور، فكان لكل عصر سمات وعادات ومظاهر خاصة به منها ما استمر وبقي ومنها ما اندثر وأصبح في طي النسيان .. لكن روايات وكتابات المبدعين حفظت هذا التراث وسجلته فى اعمال خالدة تطالعهاالأجيال القادمة جيلا بعد جيل لتكون أصدق تعبير عن هذا التراث الثقافى شديد الثراء الحافل بكل فنون الإبداع الإنسانى .